زاد شغب الأتراك بهمذان على صاحبهم شمس الدولة بن فخر الدولة، وكان قد تقدم ذلك منهم غير مرة، وهو يحلم عنهم بل يعجز، فقوي طمعهم، فزادوا في التوثب والشغب، وأرادوا إخراج القواد القوهية الأكراد من عنده، فلم يجبهم إلى ذلك، فعزموا على الإيقاع بهم بغير أمره، فاعتزل الأكراد مع وزيره تاج الملك أبي نصر بن بهرام إلى قلعة برجين، فسار الأتراك إليهم فحصروهم، ولم يلتفتوا إلى شمس الدولة، فكتب الوزير إلى أبي جعفر بن كاكويه، صاحب أصبهان، يستنجده، وعين له ليلة يكون قدوم العساكر إليه فيها بغتة، ليخرج هو أيضا تلك الليلة ليكبسوا الأتراك.

فعل أبو جعفر ذلك، وسير ألفي فارس، وضبطوا الطرق لئلا يسبقهم الخبر، وكبسوا الأتراك سحرا على غفلة، ونزل الوزير والقوهية من القلعة، فوضعوا فيهم السيف، فأكثروا القتل، وأخذوا المال، ومن سلم من الأتراك نجا فقيرا، وفعل شمس الدولة بمن عنده في همذان كذلك، وأخرجهم، فمضى ثلاثمئة منهم إلى كرمان، وخدموا أبا الفوارس بن بهاء الدولة صاحبها.


كان الحاكم العبيدي صاحب مصر يواصل الركوب وتتصدى له العامة، فيقف عليهم ويسمع منهم.

وكان الناس في ضنك من العيش معه.

فكانوا يدسون إليه الرقاع المختومة بالدعاء عليه والسب له ولأسلافه، حتى إنهم عملوا تمثال امرأة من كاغد بخف وإزار ثم نصبوها له، وفي يدها قصة.

فأمر بأخذها من يدها، ففتحها فرأى فيها العظائم، فقال: انظروا من هذه.

فإذا هي تمثال مصنوع.

فتقدم بطلب الأمراء والعرفاء فحضروا، فأمرهم بالمصير إلى مصر لنهبها وحرقها بالنار وقتل أهلها, فتوجهوا لذلك، فقاتل المصريون عن أنفسهم بحسب ما أمكنهم.

ولحق النهب والحريق الأطراف والنواحي التي لم يكن لأهلها قوة على امتناع، ولا قدرة على دفاع.

واستمرت الحرب بين العبيد والرعية ثلاثة أيام، وهو يركب ويشاهد النار، ويسمع الصياح.

فيسأل عن ذلك، فيقال له: العبيد يحرقون مصر.

فيتوجع ويقول: من أمرهم بهذا؟ لعنهم الله, فلما كان في اليوم الثالث اجتمع الأشراف والشيوخ إلى الجامع ورفعوا المصاحف، وعج الخلق بالبكاء والاستغاثة بالله.

فرحمهم الأتراك وتقاطروا إليهم وقاتلوا معهم.

وأرسلوا إلى الحاكم يقولون له: نحن عبيدك ومماليكك، وهذه النار في بلدك وفيه حرمنا وأولادنا، وما علمنا أن أهلها جنوا جناية تقتضي هذا، فإن كان باطن لا نعرفه عرفنا به، وانتظر حتى نخرج عيالنا وأموالنا، وإن كان ما عليه هؤلاء العبيد مخالفا لرأيك أطلقنا في معاملتهم بما نعامل به المفسدين.

فأجابهم: إني ما أردت ذلك ولا أذنت فيه، وقد أذنت لكم في الإيقاع بهم، وأرسل للعبيد سرا بأن كونوا على أمركم، وقواهم بالسلاح، فاقتتلوا وعاودوا الرسالة: إنا قد عرفنا غرضك، وإنه إهلاك البلد، ولوحوا بأنهم يقصدون القاهرة، فلما رآهم مستظهرين، ركب حماره ووقف بين الفريقين، وأومأ إلى العبيد بالانصراف، وسكنت الفتنة، وكان قدر ما أحرق من مصر ثلثها، ونهب نصفها.

وتتبع المصريون من أسر الزوجات والبنات، فاشتروهن من العبيد بعد أن اعتدي عليهن، حتى قتل جماعة أنفسهن من العار.

ثم زاد ظلم الحاكم، وعن له أن يدعي الربوبية، كما فعل فرعون، فصار قوم من الجهال إذا رأوه يقولون: يا واحد يا أحد، يا محيي يا مميت.


هو صاحب مصر الحاكم بأمر الله، أبو علي منصور بن العزيز نزار بن المعز معد بن المنصور إسماعيل بن القائم محمد بن المهدي، العبيدي الإسماعيلي الزنديق المدعي الربوبية.

مولده سنة 375.

أقاموه في الملك بعد أبيه، وله إحدى عشرة سنة.

حكى هو عن نفسه قال: "ضمني أبي وقبلني وهو عريان، وقال: امض فالعب، فأنا في عافية.

قال: ثم توفي، فأتاني برجوان، وأنا على جميزة في الدار.

فقال: انزل ويحك، الله الله فينا، فنزلت، فوضع العمامة بالجوهر على رأسي، وقبل الأرض، ثم قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين، وخرج بي إلى الناس، فقبلوا الأرض، وسلموا علي بالخلافة".

قال الذهبي: "كان شيطانا مريدا جبارا عنيدا، كثير التلون، سفاكا للدماء، خبيث النحلة، عظيم المكر، جوادا ممدحا، له شأن عجيب، ونبأ غريب، كان فرعون زمانه، يخترع كل وقت أحكاما يلزم الرعية بها، أمر بسب الصحابة رضي الله عنهم، وبكتابة ذلك على أبواب المساجد والشوارع، وأمر عماله بالسب، وفي سنة 395 أمر بقتل الكلاب.

وأبطل بيع الفقع والملوخية، وحرم بيع السمك بغير قشر، ووقع بباعة لشيء من ذلك فقتلهم.

وفي سنة 402 حرم بيع الرطب، وجمع منه شيئا عظيما فأحرقه، ومنع من بيع العنب، وأباد الكروم.

وأمر النصارى بتعليق صليب في رقابهم زنته رطل وربع بالدمشقي، وألزم اليهود أن يعلقوا في أعناقهم قرمية في زنة الصليب إشارة إلى رأس العجل الذي عبدوه، وأن تكون عمائمهم سودا، وأن يدخلوا الحمام بالصليب وبالقرمية، ثم أفرد لهم حمامات.

وأمر في العام بهدم كنيسة قمامة، وبهدم كنائس مصر، فأسلم عدة، ثم إنه نهى عن تقبيل الأرض، وعن الدعاء له في الخطب وفي الكتب، وجعل بدله السلام عليه، ثم إن ابن باديس أمير المغرب بعث ينقم عليه أمورا، فأراد أن يستميله، فأظهر التفقه، وحمل في كمه الدفاتر، ولزم التفقه وأمر الفقهاء ببث مذهب مالك، واتخذ له مالكيين يفقهانه، ثم تغير فقتلهما صبرا", وفي سنة 404 نفى المنجمين من بلاده.

ومنع النساء من الخروج من البيوت، وأبطل عمل الخفاف لهن جملة، وما زلن ممنوعات من الخروج سبع سنين وسبعة أشهر.

ثم بعد مدة أمر بإنشاء ما هدم من الكنائس، وأذن للنصارى الذين أكرههم في العود إلى الكفر، وخبر هلاكه أنه فقد في ليلة الاثنين لثلاث بقين من شوال، ولم يعرف له خبر، وكان سبب فقده أنه خرج يطوف ليلة على رسمه، وأصبح عند قبر الفقاعي، وتوجه إلى شرقي حلوان ومعه ركابيان، فأعاد أحدهما مع جماعة من العرب إلى بيت المال، وأمر لهم بجائزة، ثم عاد الركابي الآخر، وذكر أنه خلفه عند العين والمقصبة، وبقي الناس على رسمهم يخرجون كل يوم يلتمسون رجوعه إلى آخر شوال، فلما كان ثالث ذي القعدة خرج مظفر الصقلبي وغيره من خواص الحاكم، ومعهم القاضي، فبلغوا عسفان، ودخلوا في الجبل، فبصروا بالحمار الذي كان عليه راكبا، وقد ضربت يداه بسيف فأثر فيهما، وعليه سرجه ولجامه، فاتبعوا الأثر، فانتهوا به إلى البركة التي شرقي حلوان، فرأوا ثيابه، وهي سبع قطع صوف، وهي مزررة بحالها لم تحل، وفيها أثر السكاكين، فعادوا ولم يشكوا في قتله، وكان عمره 37 سنة، وولايته 25 سنة, وقيل: إن سبب قتله هو أنه كان كثير الشتم والسب لأخته ست الملك، واتهمها بالفاحشة، فعملت على قتله، بحيث كانت تعرف يوم خروجه إلى الجبل لينظر في النجوم، فتمالأت مع الوزير وأرسلوا عبدين أسودين، فلما كان من الليل وسار إلى الجبل وحده، قتله العبدان وأحضراه إلى أخته التي دفنته في داره، وقررت تولية ولده، وكان حينها بدمشق، فأخبرت الناس أن الحاكم سيغيب سبعة أيام, وهذا ليسكن الناس ويحضر ابنه من دمشق، فلما حضر جهزته وأخرجته للناس، على أنه الحاكم الجديد، وابنه هو أبو الحسن علي، ولقب الظاهر لإعزاز دين الله، وأخذت له البيعة.